الجزء الأوّل – الإسعاف والطوارئ

لقد مضى على تطوّعي في الصليب الأحمر اللبناني وعملي في صفوفه أكثر من عشرين عامًا. وفي كل مرّةٍ أقابل شخصًا يعرف أنَّني أنتمي الي هذه المؤسَّسة ويبادر إلى مخاطبتي، أتساءل: “هل سيتشكّرنا لأنَّنا قد كنّا في خدمته أو خدمة فردٍ من أفراد أسرته في يومٍ من الأيّام، أم أنَّه سينتقدنا لأنَّنا قد تأخرّنا عن الخدمة يوماً عندما كانوا بحاجة إلينا؟

لحسن الحظ، وفي غالبية الأحيان، يكون الخيار الأوّل هو الخيار الصحيح. ففي كلّ عام، تستجيب فرق الإسعاف في الصليب الأحمر اللبناني لنداء أكثر من 150،000 مريضٍ، وتقدّم الخدمات لأكثر من 290،000 شخصٍ. وهذا يعني أنَّ عددًا كبيرًا من الناس يشعر بالامتنان لأنَّه قد وجد الصليب الأحمر إلى جانبه، يمدّه بالعون والمساعدة المجانية يوم كان بأشدّ الحاجة إليها.

غير أنَّني أسمع بين الحين والآخر بعض التعليقات السلبية. وقد تعلّمت أن أنظر إليها كفرصٍ أحلّل من خلالها الأخطاء وسُبُلَ تحسين الخدمة، وكمدخلٍ أشرح للمواطنين من خلاله كيفية عمل الصليب الأحمر اللبناني.

ما تعلّمته من هذه اللقاءات بسيطٌ للغاية: معظم الناس في لبنان ليس لديهم أدنى فكرة عن طريقة عمل خدمة الإسعاف في الصليب الأحمر، وما تحتاجه فعليًا لكي تؤمّن الخدمة، وكيف يمكن للمواطنين مساعدتنا على الاستجابة لعددٍ أكبر من الاتصالات، وبمستوًى أفضل من الأداء والسرعة.

ليس ذلك خطأ المواطن في لبنان بالطبع. إنَّها مسؤوليتنا في الصليب الأحمر اللبناني أن نفعّل من جهود التوعية العامّة والتعريف بشكلٍ واضحٍ ومتكرّر بخدماتنا وطريقة عملنا وما نحتاجه من مستلزماتٍ ومتطلبات لكي نعزّز قدرتنا على الإغاثة والإنقاذ وتأمين الخدمة لعددٍ أكبر من الناس كل سنة.

اليوم، نبدأ نشر سلسلة من المقالات والمنشورات التي نهدف من خلالها إلى معالجة مسألة التوعية العامّة هذه. كما سنطلق قنواتٍ للتفاعل والتواصل مع الناس عبر صفحاتنا على وسائل التواصل الاجتماعي، لإلقاء الضوء على طريقة عملنا والتكاليف المترتبة لتشغيل عملياتنا بالشكل المطلوب. وقد قرّرنا البدء بخدمة الإسعاف والطوارئ بالنظر إلى أهميتها وحساسيتها في الوقت الحاضر في ظلّ تفشّي وباء فيروس كورونا، خاصة أنَّ معظم الأسئلة التي تردنا حاليًا تتعلّق بهذا الموضوع. في مقالاتنا المقبلة، سنتطرّق إلى مواضيع أخرى مثل خدمة نقل الدم، والخدمة الطبية-الاجتماعية، وإدارة الكوارث، والشباب، ومروحة من الخدمات الأخرى التي يؤمّنها الصليب الأحمر على الأراضي اللبناني كافة.

ما حاجة الصليب الأحمر اللبناني إلى المال؟ كيف سيُنفَق المال الذي نتبرّع به؟ هم متطوّعون، ما حاجتهم إذًا إلى المال؟

لقد تكرّرت هذه الأسئلة على مسامعي كثيرًا خلال الأيام القليلة الماضية. وسأحاول في هذا المقال أن أجيب عليها ببساطةٍ وشفافية.

نعم، صحيحٌ أنَّ الصليب الأحمر يستفيد من آلاف المتطوّعين المميّزين والرائعين الذين يكرّسون وقتهم لخدمة الآخرين من دون مقابل، إلّا أنَّ الصحيح أيضًا هو أنَّ جهود المتطوّعين لا تكفي وحدها. فسيّارات الإسعاف، والتجهيزات، واللوازم الاستهلاكية، ومعدّات الوقاية، والمحروقات، والكهرباء، وخدمات الصيانة….. كلّها أمورٌ تُرتّب على الصليب الأحمر جملةً من النفقات والتكاليف.

سأحاول أن أعطيكم تفاصيل محدّدة من دون أن أبتعد عن الواقعية والأشياء الملموسة التي ربّما تهمّ القارئ أكثر:

  • سيّارات الإسعاف: يملك الصليب الأحمر اللبناني 300+ سيّارة إسعافٍ مجهّزة بالكامل. في كلّ سيّارة إسعاف، علينا أولًا أن نشتري الفان، ثمّ نحوّله إلى سيّارة إسعاف ونشتري الحمّالة أو النقّالة وكل المعدّات والتجهيزات اللازمة الأخرى. كلفة هذه العملية هي 75،000 دولار أميركي، آخذين بعين الاعتبار أنَّ سيّارة الإسعاف لا تخدم أكثر من 10 سنواتٍ كحدٍّ أقصى. وكلّ سنة، علينا أن نستبدل 30 سيّارة إسعاف، بكلفةٍ إجمالية تبلغ 2.25 مليون دولار أميركي.
  • صيانة سيّارات الإسعاف ومحروقاتها: كغيرها من السيّارات، تحتاج سيّارات الإسعاف إلى الصيانة. ولكنْ، على عكس السيّارات العادية، يتمّ استخدام سيّارات الإسعاف لدينا بشكلٍ مكثّفٍ للغاية، بحيث أنَّها تجتاز مئات الكيلومترات كل يوم. وكلفة التصليحات وقطع الغيار المطلوبة تتخطى الـ500،000 دولار أميركي في السنة. بطبيعة الحال، تحتاج سيّارات الإسعاف إلى المحروقات أيضًا. ووفقًا لسعر البنزين السائد في السوق، نتكبّد ما بين 0.8 مليون و1.2 مليون دولار أميركي في السنة على المحروقات وحدها
  • اللوازم الاستهلاكية: إلى جانب تجهيزات سيّارات الإسعاف التي نبتاعها لمرّةٍ واحدة ومن ثمّ نستخدمها لسنواتٍ متعدّدة، علينا أن نعمل وبشكلٍ متواصل على إعادة ملء مخزوننا من اللوازم الاستهلاكية، التي تتراوح من الضمادات، إلى القفّازات (الكفوف بالعامية)، إلى عبوات الأكسجين، إلى الأقنعة، إلخ. تُستخدَم هذه اللوازم مرّةً واحدة فقط، ثمَّ تُرمَى. أعطيكم مثالًا واحدًا بسيطًا على ذلك: لكلّ مهمّة من مهمّات سيارات الإسعاف التي تفوق الـ150،000 مهمَّة (ناهيك عن آلاف المرضى الذين يزورون مراكزنا لتنظيف جروحهم أو لتغيير ضماداتهم)، نستخدم 6 أجواز من القفازات على الأقلّ. في كلّ سنة، ندفع مبلغًا يفوق الـ95،000 دولار أميركي للقفازات وحدها، و50،000 دولار أميركي لمختلف أنواع الضمادات والشاش، وما مجموعه 580،000 دولار أميركي لإجمالي أنواع اللوازم الاستهلاكية.
  • أجهزة إزالة الرجفان: مزيل الرجفان الخارجي الآلي هو ذلك الجهاز الذي ترونه في الأفلام عندما يهبّ أحد المسعفين لمحاولة إنعاش مريضٍ توقّف قلبه. إلى جانب عملية إنعاش القلبين والرئتين (CPR)، يزيد هذا الجهاز من حظوظ النجاة لدى مريضٍ تعرّض لسكتةٍ قلبية. هذا الجهاز الذي يملك الصليب الأحمر اللبناني 150 منه، باهظٌ للغاية. ولكنّ الكلفة الأعلى في هذا الجهاز تذهب إلى تلك اللاصقات (Patches) التي نضعها على جسم المريض، والتي يبلغ متوسّط كلفتها 30 دولار أميركي لكلّ استعمال. وبالنظر إلى أنَّ الصليب الأحمر يستخدم هذه اللاصقات على أكثر من 2000 مريض في السنة، فإنَّ الكلفة الإجمالية اللاصقة الواحدة تصل إلى 60،000 دولار أميركي في السنة.
  • معدّات الوقاية الشخصية الخاصّة بفيروس كورونا: إنَّ مهمّة نقل مريضٍ يُشتبه بأنَّه مُصابٌ بفيروس كورونا المُستجدّ تكلّفنا أكثر بكثير من مهمّة إسعافٍ عادية، حيث أنَّ جميع أفراد الطاقم في سيّارة الإسعاف والمريض نفسه عليهم أن يكونوا مُجهّزين بالكامل بمعدّات الوقاية الشخصية. إذًا، إضافةً إلى الكلفة المعتادة لمهمّة سيّارة الإسعاف، علينا أن نزيد كلفة الأقنعة الخاصّة، وبزّة الوقاية الكاملة، وأغطية الأحذية، والنظّارات الواقية، وحاجب أو واقي الوجه، إلخ. وهذا يرفع متوسّط التكلفة لطاقم إسعافٍ كامل في هكذا مهمّة إلى 850 دولار أميركي. تجدر الإشارة أيضًا إلى أنَّ هذه المعدّات الوقائية لا تُستخدم في المهمّات المرتبطة بفيروس كورونا فحسب، وإنمّا في جميع المهمّات التي تُعنَى بمختلف أنواع الأمراض المُعدية.
  • فواتير الخدمات الحيوية: على عكس ما يظنّه البعض، يتعيّن على الصليب الأحمر اللبناني أن يدفع أيضًا رسوم الكهرباء والهاتف والمياه والانترنت وغيرها من فواتير الخدمات الأساسية في جميع مراكزه. ويصل هذا المبلغ إلى ما لا يقلّ عن 350،000 دولار أميركي في السنة.
  • التدريب والتطويع واللباس: على الرغم من أنَّ نظام العمل في خدمة الإسعاف يقوم بشكلٍ أساسي على مبدأ التطوّع، إلّا أنَّه يبقى علينا استقطاب هؤلاء المتطوّعين، وتدريبهم وتأمين اللباس لهم. نستقطب في كل سنة ما بين 800 و1000 متطوّعٍ جديد لاستبدال المتطوّعين الذين يتركون الصليب الأحمر أو يسافرون. يستغرق التدريب الأساسي لكلّ متطوّع نحو 60 ساعة، يليه تدريب مكثّف مدّته 100 ساعة في خلال السنة الأولى من التطوّع (فترة التدرّج أو التجربة)، لتعقبه بعد ذلك دورات تثقيفية مستمرّة ودورات متخصّصة أخرى (سائق، رئيس فرقة، إدارة حوادث كبرى، تدريب مدرّبين، إلخ.) وتبلغ الكلفة السنوية المرتبطة بالتطويع والتدريب وتأمين اللباس 1.2 مليون دولار أميركي.

هذه مجرّد أمثلة عن التكاليف الأساسية المترتبة على الصليب الأحمر اللبناني، وهي بعيدة كلّ البعد عن اللائحة الشاملة.

يهمّني في هذا الإطار التشديد أيضًا على الأهمية البالغة التي يمثلها عمل المتطوّعين. تخيّلوا لو أنَّ استجابة الإسعاف في الصليب الأحمر اللبناني كانت مرتكزة على فريقٍ يعمل بدوامٍ كامل ويتقاضى راتبًا شهريًا متدنيًا نسبيًا. في هذا السيناريو، ستفوق الكلفة الإجمالية لعمل المتطوّعين الـ25 مليون دولار في السنة الواحدة.

تجدر الإشارة كذلك إلى أنَّه بالإضافة إلى المتطوّعين، يعوّل الصليب الأحمر على فريقٍ من الموظفين الذين يعملون بدوامٍ كامل، يتمّ استقدامهم بشكلٍ أساسيّ من صفوف المتطوّعين. يؤمّن هؤلاء خدماتٍ متخصّصة، إضافةً إلى خدماتٍ أخرى خلال الأيّام العادية (خارج سياق الأزمات)، عندما يكون معظم متطوّعينا في مدارسهم أو جامعاتهم أو عملهم.

كل ذلك يعني في المحصّلة أنَّ كلفة خدمة الإسعاف في الصليب الأحمر اللبناني تبلع حاليًا حوالى 12 مليون دولار أميركي في السنة. ولكنْ، بهذه الميزانية، نحن لا نملك القدرة على تأمين كلفة جميع مهمّاتنا والاستجابة لها في الوقت المناسب. تشير تقديراتنا للعام 2019، إلى أنَّنا لم نتمكّن من تأمين خدمةٍ فورية لنحو 20 إلى 25% من الأشخاص الذين اتصلوا بنا عبر الخط الوطني للطوارئ الطبية “140”. لكي نبني القدرة على الاستجابة لـ100% من الاتصالات التي نتلقاها، نحن بحاجةً إلى ميزانية سنوية تبلغ 18.5 مليون دولار أميركي.

من أين نأتي بالأموال إذًا؟

هناك ثلاثة مصادر رئيسية من التمويل لخدمة الإسعاف والطوارئ في الصليب الأحمر اللبناني:

  • وزارة الصحّة اللبنانية التي ترصد مخصّصات بقيمة 9.7 مليار ليرة لبنانية في السنة لخدمة الإسعاف والطوارئ في الصليب الأحمر اللبناني، ما كان يوازي سابقًا 6.5 مليون دولار أميركي – قيمتها قد تراجعت بشكلٍ ملحوظ حاليًا. ولكنْ، ومنذ منتصف العام 2018، وبسبب الأزمة الاقتصادية، لم تُدفَع هذه المُخصَّصات للصليب الأحمر، ما يتركنا أمام فجوةٍ كبيرةٍ في التمويل.
  • المساعدات الدولية التي ساهمت في العام 2019 بمبلغ 4.4 مليون دولار أميركي لخدمة الإسعاف والطوارئ في الصليب الأحمر. غير أنَّ هذه المُساعدات تُحدَّد بشكلٍ سنوي وتُقدّم على أساس اقتراحات يكتبها الصليب الأحمر، وتبقى رهنًا بتوفّر التمويل لدى الجهات المانحة. هذا المسار غير مُستدامٍ بطبيعة الحال، وهو لن يدوم إلى ما لا نهاية. ففي العام 2010 على سبيل المثال، وقبل اندلاع الأزمة السورية، تلقّى الصليب الأحمر اللبناني مساعداتٍ دولية بقيمة مليون دولار أميركي. كما أنَّ المساعدة تكون مقتصرة على ما يختار الشريك الدولي دعمه. فمعظم الجهات الدولية المانحة لا تقبل مثلًا بتمويل شراء سيّارات الإسعاف، وهي مسألة حيوية بالنسبة إلينا لكي نتمكّن من تأمين خدماتنا بشكلٍ آمن.
  • المواطنون والمغتربون اللبنانيّون الذين ساهموا في العام 2019 بنحو مليون دولار أميركي من خلال حملات التبرّع المختلفة التي أطلقناها.

يسعى الصليب الأحمر اللبناني جاهدًا اليوم إلى جميع التبرّعات محليًا على مستوى المواطنين اللبنانيين ودوليًا على مستوى الشركاء، وذلك في محاولةٍ حثيثة لسدّ هذه الفجوة الكبرى التي نعاني منها لناحية التمويل.

هذه هي إذًا محاولتنا الأولى لكي نشرح للمواطنين وعموم الناس في لبنان التكاليف التي يتكبّدها الصليب الأحمر من أجل تشغيل خدمة الإسعاف والطوارئ وتأمينها لأكثر من 290،000 شخصٍ سنويًا (خدمة متكاملة).

نأمل أن يكون هذا المقال قد أتى بالوضوح والإجابة على كافة الأسئلة التي وردتنا. سوف نتابع خلال الأسابيع المقبلة مشاركتكم المزيد من المعلومات عن الخدمات الأخرى التي يقدّمها الصليب الأحمر اللبناني والردّ على أسئلتكم بكلّ شفافية.

نشكركم فردًا فردًا على دعمكم وثقتكم. ونشكر كلّ متطوّعٍ من متطوّعي الصليب الأحمر على جهوده وتضحياته. نحن نعوّل عليكم لمساعدتنا في الاستجابة لهذه الأزمة الممتدة التي تعصف بنا حاليًا، ولنتمكّن أيضًا من الاستمرار في إرسال سيّارات الإسعاف لآلاف الأشخاص الذين يحتاجونها سنويًا!

إنَّ الصليب الأحمر اللبناني لا يقدّر بثمن ثقة المواطنين اللبنانيين، وهو لن يوفّر جهدًا في التواصل معكم بشفافيةٍ وانتظام!

القائمة